الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
أي: استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقي في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد: يجر على وجهه في النار، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل: المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب، يتقيه أولاً بجوارحه، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه، وفيه جواب، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية: وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذا المضمار يجري قول الشاعر: لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها، فهو يلقاها بكل مجن، وبكل شيء عنه، حتى بوجهه وبنحره. انتهى. و{سوء العذاب}: أشده، وخبر من محذوف قدره الزمخشري: كمن أمن العذاب، وابن عطية: كالمنعمين في الجنة. {وقيل للظالمين}: أي قال ذلك خزنة النار، {ذوقوا ما كنتم}: أي وبال ما كنتم {تكسبون} من الأعمال السيئة. {كذب الذين من قبلهم}: تمثيل لقريش بالأمم الماضية، وما آل إليه أمرهم من الهلاك. {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}: من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. كانوا في أمن وغبطة وسرور، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي. ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم. وانتصب {قرآناً عربياً} على الحال، وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربياً، وقرآنا توطئة له. وقيل: انتصب على المدح، ونفى عنه العوج، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض. وقال عثمان بن عفان: غير مضطرب. وقال ابن عباس: غير مختلف.وقال مجاهد: غير ذي لبس. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: غير ذي لحن. قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيماً أوغير معوج؟ قلت: فيه فائدتان: إحدهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: {ولم يجعل له عوجاً} والثاني: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس، وأنشد: انتهى. ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن {من كل مثل}: أي محتاج إليه، ضرب هنا مثلاً لعابد آلهة كثيرة، ومن يعبد الله وحده، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم. ورجل آخر مملوك جميعه لرجل واحد، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه، فلا يلقى من سيده إلا إحساناً، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده. وقال الكسائي: انتصب رجلاً على إسقاط الخافض، أي مثلاً لرجل، أو في رجل فيه، أي في رقه مشتركاً، وفيه صلة لشركاء. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن: بخلاف عنه؛ والجحدري، وابن كثير وأبو عمرو: سالما اسم فاعل من سلم، أي خالصاً من الشركة. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه؛ وباقي السبعة: سلما بفتح السين واللام. وقرأ ابن جبير: سلما بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرئ: ورجل سالم، برفعهما. وقال الزمخشري: أي وهناك رجل سالم لرجل. انتهى، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ، لأنه موضع تفصيل، إذ قد تقدم ما يدل عليه، فيكون كقول امرئ القيس: وقال الزمخشري: وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. وانتصب مثلاً على التمييز المنقول من الفاعل، إذ التقدير: هل يستوي مثلهما؟ واقتصر في التمييز على الواحد، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله: {ضرب الله مثلاً}، ولبيان الجنس. وقرئ: مثلين، فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين، لأن التقدير مثل رجل، والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية؟ كما يقول: كفى بهما رجلين. انتهى. والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين، فأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير، إذ يصير التقدير: هل يستوي المثلان مثلين؟ قل: {الحمد لله}: أي الثناء والمدح لله لا لغيره، وهو الذي ثبتت وحدانيته، فهو الذي يجب أن يحمد، {بل أكثرهم لا يعلمون}، فيشركون به غيره.ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة، وهو الحكم العدل، فيتميز المحق من المبطل، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة، والكافرون هم المبطلون. فالضمير في وإنك خطاب للرسول، وتدخل معه أمته في ذلك. والظاهر عود الضمير في {وإنهم} على الكفار، وغلب ضمير الخطاب في {إنك} على ضمير الغيبة في إنهم، ولذلك جاء {تختصمون} بالخطاب، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت، وكذبوا واجتهدت في الدعوة، ولجوا في العناد. وقال أبو العالية: هم أهل القبلة، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم. وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك، رضى الله عنهم. وقيل: يختصم الجميع، فالكفار يخاصم بعضهم بعضاً حتى يقال لهم: لا تختصموا لدي. والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. وقرأ ابن الزبير، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى، واليماني، وابن أبي غوث، وابن أبي عبلة: إنك مائت وإنهم مائتون، وهي تشعر بحدوث الصفة؛ والجمهور: ميت وميتون، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي.
ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى؟ كقوله: وقيل: الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عليّ، وأبو العالية، والكلبي، وجماعة: الذي جاء بالصدق هو الرسول، والذي صدق به هو أبو بكر. وقال أبو الأسود، ومجاهد، وجماعة: الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب. وقال الزمخشري: والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله: {ولقد آيتنا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} ولذلك قال: {أولئك هم المتقون}، إلا أن هذا في الصفة، وذلك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهو الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى. وقوله: وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه. استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه، وإنما هو متصل، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه، كما أراده بموسى وقومه: أي لعل قومه يهتدون، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ. فالمترجى هداية قومه، لا هدايته، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً. وقوله: ويجوز إلخ، فيه توزيع الصلة، والفوج هو الموصول، فهو كقوله: جاء الفريق الذي شرف وشرّف.والأظهر عدم التوزيع، بل المعطوف على الصلة، صلة لمن له الصلة الأولى.وقرأ الجمهور: {وصدق} مشدداً؛ وأبو صالح، وعكرمة بن سليمان، ومحمد بن جحازة: مخففاً. قال أبو صالح: وعمل به. وقيل: استحق به اسم الصدق. قال ابن عطية: فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن أمته في ضمن القول، وهو الذي يحسن {أولئك هم المتقون}. انتهى. وقال الزمخشري: أي صدق به الناس، ولم يكذبهم به، يعني: أداه إليهم، كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: معناه: وصار صادقاً به، أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة. وقرئ: وصدق به. انتهى، يعني: مبنياً للمفعول مشدداً. وقال صاحب اللوامح: جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله، أي في قوله، أو في مجيئه، فاجتمع له الصفتان من الصدق: من صدقه من عند الله، وصدقه بنفسه، وذلك مبالغة في المدح. انتهى.{لهم ما يشاءون}: عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم. و{ليكفر}: متعلق بالمحسنين، أي الذين أحسنوا ليكفر، أو بمحذوف، أي يسر ذلك لهم ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير. و{أسوأ الذي عملوا}: هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام. والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، فقيل: ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوابه. وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي، وهذا قول المرجئة، يقولون: لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان. واحتج بهذه الآية، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين، أي ذلك جزاؤهم، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب. والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل، وبه قرأ الجمهور: وإذا كفر أسوأ أعمالهم، فتكفير ما هو دونه أحرى. وقيل: أفعل ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشج أعدل بني مروان، أي عادل، فكذلك هذا، أي سيء الذين عملوا. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم، وحامد بن يحيى، عن ابن كثير: أسوأ هنا؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء، ولا تفضيل فيه. والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل: لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه، وإن تخلف عنه بالتقصير. وقيل: بأحسن ثواب أعمالهم. وقيل: بأحسن من عملهم، وهو الجنة، وهذا ينبو عنه {بأحسن الذي}. وقال الزمخشري: أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ، وحسنهم بالأحسن.انتهى، وهو على رأى المعتزلة، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله، وذلك توزيع في أفعل التفضيل، وهو خلاف الظاهر.قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء، فأنزل الله: {أليس الله بكاف عبده}: أي شر من يريده بشر، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير، أي هو كاف عبده، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه. وقرأ الجمهور: عبده، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ أبو جعفر، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي: عباده بالجمع، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين؛ {ويخوفونك بالذين من دونه}: وهو الأصنام. ولما بعث خالداً إلى كسر العزى، قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء. فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف. وفي قوله: {ويخوفونك}، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر. ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} وقرئ: {بكافي عبده} على الإضافة، ويكافي عباده مضارع كفى، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظظ المبالغة، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن، كقوله: {فسيكفيكم الله} ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة، وهي المجازاة، أي يجزيهم أجرهم.ولما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثاً باطلاً. ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين، أخبر أن ذلك كله هو فاعله، ثم قال: {أليس الله بعزيز}: أي غالب منيع، {ذي انتقام}: وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين. ولما أقروا بالصانع، وهو الله، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد. فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضراً ولا تمسك رحمة، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك. وأرأيتم هنا جارية على وضعها، تعدت إلى مفعولها الأول، وهو ما يدعون. وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية، وفيها العائد على ما، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً. وكان فيها من سمى تسمية الإناث، كالعزى ومناة واللات، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها، لأنهم خوفوه مضرتها، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله. ثم استخبرهم عن أصنامهم، هل تدفع شرّاً وتجلب خيراً؟ وقرأ الجمهور: كاشفات وممسكات على الإضافة؛ وشيبة، والأعرج، وعمرو بن عبيد، وعيسى: بخلاف عنه؛ وأبو عمرو، وأبو بكر؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما. ولما تقرر أنه تعالى كافية، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه، أي كافية. والجواب في هذا الاستخبار محذوف، والتقدير: فإنهم سيقولون: لا تقدر على شيء من ذلك. وقال مقاتل: استخبرهم فسكتوا. {قل يا قوم اعملوا}: تقدم الكلام على نظيرها.
|